بقلم : علي أبو عراق - معهد صحافة الحرب والسلام :
ولد صياد الاسماك محمد مشلاط في بيت مصنوع من القصب على ضفة نهر الكرمة قبل أن يتفرع مباشرة من شط العرب وينعطف في مسيره عبر مدينة البصرة التاريخية .ولا يستطيع مشلاط ، الذي مارس مهنة صيد الاسماك معظم سني عمره السبعين، أن ينسى مشاهدة بزوغ فجر يوم جديد وهو يمخر بقاربه عبر تفرعات النهيرات والجداول والقنوات وألاهوار التي تشكل ممرات العراق المائية الشهيرة والتي تحدق بها المخاطر في الوقت الراهن .


لقد "ولدت بالقرب من النهر ومياهه كأفراد عائلتي ولم نفترق معظم العقود السبعة الماضية " ، يقول مشلاط وهو يهش هالة من الذباب المطنطن على رأسه منتصف يوم قائظ .
ومشلاط هو واحد من عشرات آلآلاف من صيادي محافظة البصرة ومعهم صانعو القوارب وحائكو شبكات الصيد وتجار السمك آخرين غيرهم الذين يجدون مورد رزقهم التقليدي في مرمى نيران رزمة من المشاكل ومنها السدود المقامة أعالي النهر والجفاف والتلوث والتنقيب عن النفط والافراط في صيد ألاسماك .
وقد غدت المياه المحيطة بالبصرة وخصوصا شط العرب ، الذي يتكون من تلاقي نهري دجلة والفرات واللذين يصبان بدورهما في الخليج العربي ، ضحية للمشاكل المائية الكثيرة في العراق ومثالا مأساويا على عواقبها الاجتماعية .
ويقول مشلاط " نستمد كامل حياتنا من الانهار . ولانعرف حرفة غيرها لنمتهنها . وكنا معتادين على الصيد الوفير ولكن الان وفي كل عام وفصل يتناقص عدد الاسماك . ولقد هجر العديد من الناس صيد الاسماك وأشتغلوا بأعمال أخرى . وبالنسبة لهم فان العمل في دكان أو معمل هو شئ غير طبيعي " .
والسبب الشائع كثيرا وراء تراجع صيد الاسماك في البصرة هو زيادة نسبة الملوحة لتجاوز أيران على النهر . ففي عام 2009 أمرت السلطات الايرانية بتحويل مجرى نهر الكارون ، وهو واحد من أهم روافد نهر دجلة ، حيث تم حفر قناة وسحب المياه الى داخل الاراضي الايرانية من نقطة الالتقاء الطبيعية لنهري الكارون ودجلة مباشرة شمالي مدينة البصرة . وأدى ذلك الى حرمان شط العرب من حوالي 13 مليار متر مكعب من المياه العذبة كل عام والذي كان يفيد في التخلص من المشاكل والتعقيدات البيئية الحيوية . كما شكل بناء السدود في أعالي نهري دجلة والفرات في كل من تركيا وسوريا دمارا وخرابا كبيرين لشط العرب .
وفشلت الجهود المبذولة للتخفيف من البرامج والسياسيات الكارثية لنظام صدام حسين في تجفيف المسطحات المائية – والتي كان الهدف منها معاقبة ألاهالي الثائرين في الجنوب – بسبب الطمع في حفر الابار النفطية والتنقيب عن المعادن .
ويدعي المسؤولون المحليون بأن ما لايقل عن 30 الف صياد وفلاح قد أجبروا على ترك منازلهم بحثا عن عمل آخر. فيما تشير تقديرات أخرى الى أن العدد يفوق ال 100 الف أنسان .
ويصف رئيس المهندسين الزراعيين في البصرة وعضو لجنة تنشيط واحياء الاهوار ، علاء البدران ، حالة القنوات المائية ، التي كانت معروفة فيما مضى بأسم فينيسيا الشرق الاوسط ، بالكارثية وقد " أنخفضت مخزونات الاسماك بشكل كبير جدا وأتوقع انخفاضا أكبر ليس بسبب زيادة نسبة الملوحة فقط ولكن هناك اسباب جديدة مثل أرتفاع نسبة التلوث بالاضافة الى الاكثار من صيد الاسماك واستخدام السم للصيد وتجفيف مناطق بالكامل لاستخراج النفط " .
ويضيف البدران بأن " العديد من الانهر الفرعية والجداول التي تحيط بالبصرة مملؤة بمخلفات المجاري الصحية في الوقت الحالي بسبب ركود المياه . ويأتي الينا السكان ويشتكون من ان البيئة قد تم تدميرها " .
ويعتقد الحجة والمرجع في الفلكلور البصري وكاتب الاعمدة الصحفية المخضرم في جريدة " المنارة" التي أحتجبت عن الصدور ، عبد الله عياضة ، بأن تراجع صناعة صيد الاسماك أثرت وبشكل عميق على الحالة النفسية الجمعية لأهالي البصرة .
ويقول عياضة عندما " قدم العرب الى البصرة سنة 14 للهجرة – 636 م – كان أول أمر فعلوه هو بناء مسجد وأقامة وليمة . وأول طبق قدموه كان السمك الطازج الذي كان متوفرا بكثرة في الانهر البصراوية المحلية . وكانت الاسماك وما زالت على موائد البصريين حتى وقتنا الحاضر. ولعل السمك هو أهم طعام للسكان في البصرة . وهو من أبرز سمات المدينة جنبا الى جنب النخيل والانهار " .
ويرسم عياضة جدولا بيانيا يبين أنخفاض صيد الاسماك الموسمية المعروفة باسم " الصبرة " وتلاشي العادات والتقاليد الطيبة والمتجذرة في تاريخ البصرة . وتهاجر اسماك الصبرة من البحر الى شط العرب في شهر شباط من كل عام للتزاوج ووضع البيض جتى شهر تشرين الاول . ولعدة أجيال ، أستفاد مشلاط من موسم الصيد الطويل وتدورحياة الصيادين حول وفرة الاسماك .
مضيفا بأنه " تناقصت أعداد الاسماك بشكل ثابت خلال السنوات القليلة الماضية . ويمضي الصيادون اياما عديدة في الانهار ومع ذلك لايحصلون على طعام كاف ليضعوه على موائدهم . كما تم الغاء الكثير من المهرجانات الموسمية . وأسعار الاسماك التي يتم صيدها مرتفعة للغاية " .
وأرتفعت أسعار الاسماك في أقدم سوق للاسماك بني في البصرة عام 1946 وتستحوذ الاسماك غير المحلية على حصة الاسد في السوق . ووفق تقديرات البدران فأن 80 بالمئة من الاسماك المعروضة للبيع في اسواق البصرة تستورد من خارج العراق .
غير أن هذا الوضع لايقلل من حماسة ونشاط بائع الاسماك محمد فاضل – 50 عاما – الذي يمتهن بيع الاسماك في سوق السمك في البصرة تماما مثل والده واجداده قبله . كما يعمل أخوته الاربعة في بيع الاسماك من الساعة الخامسة فجرا وحتى منتصف الليل يوميا ويقول بأنه " لن يتحول الى مهنة أخرى بتاتا " . مضيفا " وكما ترى ، فان أهالي البصرة لايقدرون العيش بدون السمك . ولايوجد الكثير من الاسماك البصرية الان . والاسعار ترتفع يوما بعد يوم . ولهذا السبب فهم يشترون السمك من ايران ودول شرق آسيا " .
وأراد الصيادون التأقلم مع الظرف الجديد ولكن دون جدوى . وقد حاول مشلاط وعائلته صيد السمك في مدينة الفاو غير أن العنف يسود مناطق الصيد هناك ، حسب أدعائه . كما يلاقي الصيادون العراقيون منافسة من الصيادين الايرانيين والكويتيين في المياه المتنازع عليها مما أجبره على العودة الى البصرة ثانية والصيد في مياهها الشحيحة من الاسماك .
" أنظر بعينك هنا " يتأوه مشلاط وهو يحمل بيدية سلة من القصب فيها ثلاثة أسماك شبوط هزيلة " خرجت للصيد مع خيوط الفجر ألاولى وهذا كل ما أستطيع توفيره لاسرتي " .
كتابة : علي أبو عراق ، الصحفي المتدرب فب معهد صحافة الحرب والسلام – البصرة
ترجمة : كريم حلمي

قائمه


 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

شناشيل  للاستضافة والتصميم

pepek